الأربعاء، 17 يوليو 2013

ليلة رعدية _أجزاء من رواية حكاية مصرى .



الكاتب الروائي  المصري _ د عاطف عبد العزيز عتمان 


أجزاء من رواية حكاية مصرى ....على صفحتهاhttps://www.facebook.com/HkaytMasry

أجزاء من رواية حكاية مصرى ....



رجعت الذاكرة بمصري إلى ليلة رعدية من ليالي الشتاء القارص فى بداية التسعينيات من القرن العشرين ...
فى إحدى قرى الريف المصري المطلة بوجهها الباسم على ضفاف فرع رشيد ..
حيث البيوت إما أنها طينية أو مبنية بالطوب الأحمر ومسقوفة بالأخشاب والطين ...وقليل منها مسقوف بالأسمنت والحديد..

وحيث الكهرباء فى الشتاء غالبا ما تنقطع باليومين والثلاثة.
فهم فلاحين بسطاء من ركاب الدرجة الثالثة الترسو
وليس فيهم ألئك المهمين من أصحاب النفوذ والرنين...

قرية الفردوس
قرية فى الريف المصري وهى فعلا فردوس بموقعها الذي يطل نهر النيل
ويكون سحر النيل هو المنظر الأول التي تراه العيون فى الصباح وخاصة أن الشمس تشرق بأشعتها الذهبية على سطح النيل فى الصباح فتنعكس الأشعة الشمسية بلونها الذهبي على صفحات الماء فتسحر نظر الناظر وتخلب قلب العاشق وتفتح بحور الخيال ..

الفردوس قرية ريفية تعتمد على الزراعة وتربية الماشية ويعتمد ساكنوها فى طعامهم على منتجات الألبان ومنتجات الحقول من حبوب وخضراوات وعلى الطيور المنزلية التى تربى بكل منزل وتتغذى على الحبوب وبقايا الطعام وما تجود به الأرض من حشائش و عشبيات

خبزها هو الخبز البلدي المخبوز فى هذا الفرن المصنوع من الطين والذى يستخدم الخشب والحطب فى تشغيله فيعطى للطعام مذاق خاص ...
ويتنوع الخبز فيها بين ذلك المسمى قديدا أو العيش الناشف وهو الشعبي والأرخص تكلفة والأطول عمرا لأنه يحفظ جاف ويستخدم أيضا لعمل الفتة سواء باللبن أو الشوربة تحت طبق الأرز ...
وهناك البكاكيم أو القرص المعمولة من الدقيق الأبيض والسمن الفلاحي وهذه أكثر تكلفة وتعد من الرفاهية وتستخدم فى الإفطار أو فى سحور رمضان إبتهاجا بالشهر الفضيل ..
ناهيك عن الرقاق والفطير المشلتت وهذه أغذية المناسبات .
سكان القرية معظمهم من الفلاحين وقليل من العمال والصيادين
تربطهم علاقات جيرة أو مصاهرة أو قرابة ...

يوم الجمعة هو عيد القرية حيث تجتمع العائلة على الغداء بعد صلاة الجمعة وفى الغالب تكون غدوة دسمة تستضيف إما من اللحوم أو البط أو الدجاج ولربما تجود البنية
-البنية برج صغير منزلي للحمام-
بزوج أو زوجين من الحمام ....

أفراح القرية مميزة ..يميزها التكافل الإجتماعي وما تسمى بنقطة العريس وهى أموال يتم جمعها من المدعوين وتسجل فى كراس كل حسب المبلغ الذي دفعه وتعتبر دينا يرده العريس للدائن فى مناسباته المختلفة وتميزها الوليمة ويقوم بها طباخ مهنته أكل الأفراح وتركز على اللحوم والحلويات...

الفردوس قرية متدينة فطريا بعيد عن الغلو و الإفراط أو التفريط..
تفرح وتعلو الزغاريد والأغاني
وقلما يقوم أحد بإحضار عوالم لأن ذلك غير مقبول فى عرف الفردوس ومن يفعلها يكون ساقط من نظر الكثيرين
حتى المقهى الموجود بالبلدة لا يرتاده سوى العاطلين والمنحرفين ..

والكوارث أيضا فى الفردوس لا تخلو من التكافل فأعز ما يملك الفلاح هي جاموسته أو بقرته..
فلو كسرت الجاموسة أو مرضت تذبح ويتم توزيع لحمها على سكان القرية بمقابل مادي حتى يتم جمع ما يعين الفلاح على شراء حيوان جديد .
فالجاموسة هى مصدر للغذاء وللأموال من ببيع منتجات الألبان ..
هى من تقوم بحرث الأرض وريها ..هى روح الفلاح ...
وفى أخلاقيات الفردوس فى هذا الزمن أنه فى حالة حدوث وفيات
يحضر الجميع الجنازة ويصنع الأقارب والجيران الطعام لأهل الميت وللمعزين الغرباء ويكون العزاء بمنزل المتوفى إلا فى حالات نادرة
فعلية القوم يحضرون الفراشة و المقرئ ويقيمون سرادق العزاء

أما العامة فكانوا يكتفون بصوت الشيخ محمد رفعت أو الطبلاوى ليقيمون عليه العزاء فى حوش المنزل وأمامه
وكعادة الدنيا لا تخلو من المنغصات
فالفردوس فيها من الجهل والمشعوذين وفيها خلافات وصراعات بسبب الإنتخابات من أول العمودية حتى مجلس الشعب ..
فهي قرية فى هذا الوقت تعيش إيجابيات وسلبيات المرحلة ......

فى تلك الليلة الرعدية شديدة البرودة والممطرة مطرا ثلجيا كحبات الملح الصافية.
كان الأطفال يخرجون رافعين أكفهم لينالها شيء من الثلج يتقاذفون به ويلعبون ويمرحون سعداء بالظاهرة قليلة الحدوث ....

أقبل الظلام والكهرباء غائبة والحياة تنتهي فى الريف عقب صلاة العشاء ...
دخل مصري بيته المكون من ثلاث حجرات وصالة .حجرتي نوم وحجرة جلوس بها الكنب العربي وحديقة بها شجرة من العنب تعطى الفاكهة كل عام وتغطى بظلالها الوارفة سطح المنزل فتلطف من حر الصيف ..
وتعطى عش اليمام الذي يتكون كل عام بين فروع وأوراق العنب بعد أن يغزله زوج من اليمام ليبيض اليمام بيضتين تخرجان يمامتان صغيرتان ..
تنتظرهما الحاجة فاطمة أم مصري من العام للعام حتى يكبرا وقبل الطيران تذبحهما وتضعهما فى برام أرز باللبن فى الفرن البلدي الذى يشتعل بالحطب
فتختلط عطور وروائح الأخشاب حطب المزروعات الجاف من ذرة وقطن بالأرز وبداخله اليمام لتكون وجبة سنوية مميزة ...

وإلى جوار شجرة العنب توجد شجرة الجوافة وعن يمينها شجرة الليمون ..
فالليمون ومشروبه بالسكر كان الدواء من نزلات البرد وكان التابل المشهي لطبق الشوربة أو المرق كما يحلو تسميتها وكان العصير الطازج للضيوف الأعزاء فقط .ولغيرهم كوب من الشاي

الحاجة فاطمة
أم مصري سيدة ريفية بسيطة سمراء الملامح متوسطة الطول سوداء الشعر معتدلة القوام متوسطة الجمال فائقة جمال الروح والطباع
كانت تصغر زوجها بحوالي 40عاما لم تخرج من الحياة سوى بمصري
فهو قرة عينها ولكنها كانت شديدة عليه شدة التربية والحرص على خلق رجولة مكتملة الأركان ....
كانت أمية ولكنها لم تكن جاهلة..
كانت تحاول أن تربى مصري على القيم والأخلاق الفطرية بعيدا فلسفة الفلاسفة وكلام المتكلمين التي لا تجيده بكل تأكيد ..
فلم تقرأ فى كتب علم النفس التربوي ولم تستعين بأخصائيه فى التربية.
إنما تعاملت بالفطرة النقية التي فاقت فى أحيان كثيرة فلسفة المتفلسفين ..

فرد الليل ستارة من الظلام على القرية والمنزل ودخل الحاج منصور
ذلك الشيخ الكبير صاحب اللحية البيضاء والوجه المستدير والأنف الفرعونية المميزة بكبرها نوعا ما والشعر الذي كساه الشيب والوقار الفطري والبشرة البيضاء والعكاز الخشبي المطعمة قبضته ببعض العاج.
ويرتدى على رأسه الطاقية الفلاحي المصنوعة من الصوف وفوقها عمامة بيضاء وعلى كتفه عباءة سوداء وهو فى السبعين من العمر وكل حلمه الوصول بمصري لبر الأمان وحمايته من غدر الزمان ..
فسأل عن اللمبة ولماذا لم توقد ..
فردت الحاجة فاطمة أن الكيروسين والمسمى بالجاز آن ذاك غير موجود .
نادي الحاج منصور على مصري ..وأعطاه خمسون قرش وجركن فارع وقال له أذهب إلى عبدا لرازق البقال.
وأحضر 2لتر جاز للمبة ..
وكان البقال فى الريف أحيانا يملك برميل كبيرا ليبيع من خلاله الجاز..
خرج مصري وعلى رأسه طاقية تحمى رأسه من المطر ويلبس حذاء بلاستيكيا ذو رقبة طويلة كأحذية رجال المطافئ لتحميه من أوحال الطريق كانت تسمى فى الريف بالجزمة الميري ..

الحاج منصور....
فلاح مصري يمتلك قطعة من الأرض مابين جسر النيل وشاطئه وتزوج ثلاث مرات وله من الأبناء سبعة .
سابعهم هو مصري الطفل الصغير الذى أنجبه وهو على مشارف العام السبعين وباقي الأبناء ثلاثة من الذكور وثلاثة من الإناث أصغرهم يكبر مصري عشرون عاما ..
الحاج منصور كان له الدور الأول فى بناء هذه الشخصية .
شخصية مصري فمع ما يحكى عن شدته وقسوته فى التعامل مع سائر أبنائه كان نبع حنان صافى لمصري ..
ويبدو أن الحاج منصور قد شعر أن رحلته قد أوشكت على النهاية
فحاول تعويض الصغير حرمان اليتم المبكر
فأغدق عليه من عواطفه وصب عليه الحنان صبا لدرجة أن مصري كان يلازمه كل حالاته .
ومع هذا الفيض من الحنان تعامل الحاج منصور مع مصري على أنه رجل وأكبر من سنه فكان له الأب والأخ المحروم منه مصري بحكم فارق السن على الأقل مع إخوته الذين كان لدي بعضهم من الأبناء من يكبره بسنوات.........
كانت الهواجس تملأ وجدان الحاج منصور خوفا على صغيره من ظلمات الحياة ومن بعض من إخوته الذين لا يظهرون به ترحيبا فى حياتهم ...
ربما هي الغيرة من حنان الأب ...
ربما لعبة المواريث.
ربما هي طبيعة غير الأشقاء وتعدد الأرحام يؤدى إلى التنافر ...
وكان الأب دائما يستحضر قصة يوسف عليه السلام وإخوته .
ويخشى على مصري من المستقبل المجهول .
تأخر مصري فى إحضار الكيروسين والمسمى بالجاز فلبس الأب حذائه وخرج باحثا فى ظلمات الليل عن ضياء عينيه والذى بدونه تكاد أن تظلم نتيجة المياه البيضاء التي أصابت عينيه ..
خرج يتحسس فى الظلام ويسأل من يقابله هل رأيت مصري ؟؟
وإذا به بصوت بكاء طفل بجوار أحد جدران المنازل ..!!!
إقترب الحاج منصور من مصدر البكاء فإذا هو مصري وقد أغرقت دموعه ملابسه وطغت ملوحة ماء البكاء على عذوبة ماء الأمطار.....
سأل الرجل إبنه ما يبكيك ولماذا تأخرت؟ فبكى مصري وأخبر والده أن الخمسون قرشا قد وقعت منه وأنه خاف أن يعود للمنزل بدون الجاز ..
إحتضن الأب مصري وذهب للبقال وأحضر الجاز وعاد لبيته هو ومصري والأم قلبها ينفطر قلقا على تأخر الصغير ...
فلما رأته نزلت عليه ضربا بالمقشة ..
والمقشة هي الأعواد الفارغة مكان بلح النخل وكانت تستخدم فى النظافة المنزلية وفى الضرب أحيانا وتأديب الصغار
وتعتبر صائدا جيدا للفئران .فبسبب تعدد أفرعها تؤدى ضربة واحدة لشل حركة الفأر ويسهل القضاء عليه بضربات متتالية ....
الحاج منصور دافع عن صغيره ونهر الأم ودخل بمصري الغرفة
وأشعلت الأم اللمبة الجاز نمرة عشرة وكان هناك لمبة أصغر نمرة خمسة وكانت هناك الساهرية .
تلك اللمبة الصغيرة جدا التي تضاء أثناء النوم وتظل ساهرة تضيء المكان ..

كان مصري مرتبط بالأب بشعور غريب
كان يستغنى عن أي أحد أو أي شيء إلا الأب ..
هل كان ذلك إحساسا بأن الأب قد إقترب موعد سفره النهائي ..؟؟
أم بسبب حنان الأب الذى غمر به صغيرة أم بسبب الصداقة التي صارت بين الأب وإبنه ربما كل هذا ..!!!!
والأهم أن مصري منذ طفولته كان يحب أن يجالس الكبار وينادم من هم أكبر منه سنا ...

زاد هطول الأمطار وإشتد البرد فى جوف الليل وبدأ سقف البيت يتشبع بالمياه وبدأت بعض القطرات تسقط من السقف داخل البيت
فقال الحاج منصور
يا فاطمة ضعى بعض الأوانى مكان القطرات التى تسقط من السقف
فقامت أم مصري بإحضار بعض الأواني ووضعها مكان سقوط القطرات حتى تحمى الأساس البسيط من التلف بسبب القطرات المتسربة من السقف الخشبي ....
وأوقدت موقد للتدفئة وهو عبارة عن قطعة من الفخار بداخلها بعض الكوالح وهى الفارغ من أكواز الذرة .
وتشتعل الكوالح حتى تتفحم وتكون مصدر لمحاربة قسوة البرودة وتصبح دفاية بدائية صنعتها أيادي مصرية .
ومرت الليلة ببطيء كحال ليالي الشتاء المظلمة الباردة
ونامت الأسرة فى أمان
وأسدل التاريخ ستارة على تلك الليلة ....والجو ساكن فى القرية لا يعكر سكونه سوى صوت الأمطار وضجيج الرعد وأضواء البرق الذي تكاد تخطف الأبصار..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق