بقلم الأستاذ مختار الحجلاوي المحامي لدى التعقيب بسيدي بوزيد
طرحنا في نهاية الحلقة الأولى من هذا المقال سؤالين:
1 ـ ما حكم التكفير؟
2 ـ ما حكم الجهاد؟
1 ـ أمّا عن حكم التكفير، فاعلم بني ... أنّ حسم القول فيه يقتضي الغوص في مثانيه الثلاث وهي:
أ ـ هل املك أن أدّعي الإيمان؟ ويحمل هذا المثنى في طيّاته تساؤلاً آخر يقول: ما دام من متعلّقات الإيمان العمل بأحكام كتاب الله وذلك متوقف بداية على فهمها واستنباطها , فهل أملك أنا الإنسان المخلوق الضعيف صاحب القدرات العقليّة المحدودة أن أحيط بجميع الأحكام والدلالات الواردة في كلام الخالق وقوله المتّصفين بالتجرّد والإطلاقيّة؟ وهل أنّ فهمي على شاكلته لأحكام كتاب الله هو الوحيد الذي يمثّل الحقيقة، وما دونه باطل يورث التكفير والإخراج من الملّة بزعم عدم العمل بما أنزل الله؟ .. خذ مثلاً: إن سألتَ أحدهم عن حكم الزاني، أجابك: فأمّا الثيّب فيُجلد مائة جلدة وأمّا المحصن فيُرجم حتى الموت , وإن سألتَ: من أدراك؟ كان الجواب أنّ آية تقول: الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتّة، كانت كُتبت على بردية أو ما شابه وضعها الرسول(ص) تحت خشبة سريره فجاءت دويبة وأكلتها فصارت منسوخة كتابة ولكنّها ماضية حكمًا .. فعندهم يعتري النسخ آيات الكتاب، فتنمحي كتابةً بعض الآيات ولكن تبقى حكمًا وقد ينمحي حكمُ أخرى ولكن تبقى كتابة، كما قد تُنسخ حكمًا وكتابةً .. وعندهم تنسخ السنة أحكام الكتاب وكأنّ الله لم يتعهّد بحفظ القرآن الذي نزّله على عبده ورسوله تبيانًا لكلّ شيء .. ولكنّي أرى حكم الزاني واضحًا جليًّا في قوله تعالى: « الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة «(النور 02) لا فرق بين المحصن والثيّب حيث لم يفرّق الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم، وأردّ القول بالنسخ فلا أعتبر آية من القرآن ناسخة ولا منسوخة ولا أتحمّل القول بقدرة السنّة على نسخ آيات القرآن لأنّ السنة كما أرى تفصيل لكليّات النص القرآني وليست مصدرًا إضافيًا للتشريع فهي بالأحرى قناة تشريعيّة نفذ عبرها الرسول (ص) إلى عمق أحكام القرآن ومعانيه وذلك تصديقًا لقوله « وأنْزَلْنَا إليْكَ الذِكْرَ(أي الحكمة التي أنتجت ما نتعارف عليه بمصطلح السنّة) لتبيّنَ للنَاِس مَا نُزِّل إليْهِمْ(أي القرآن) «(النحل 44). وأتحدّى من يحدّد لي الآيات المنسوخة مهما كان نوعها، والآيات الناسخة والأحاديث والروايات أو الأعمال التي أتاها الرسول ناسخة لآيات الكتاب .
أراك بُني ... قد أدركت عمق الاختلافات في الرأي والمفاهيم , فالتطرّق إلى حكم مسألة واحدة(حكم الزاني) يفضي حتما الى الاختلاف ويُنتج كمّا هائلاً من الاختلاف في المسائل الفرعيّة، وهي في حالتنا الراهنة متعلّقة بموضوع الناسخ والمنسوخ بين الوجود والعدم، وموضوع مفهوم السنّة ومدى قدرتها على نسخ القرآن ...الخ . وحتى نحسن استغلال هذا المثال أسألك: ها قد اختلفتُ أنا ومجيبك وأخذ منّا الاختلاف مأخذًا، فهل أملك أن أدّعي احتكار الحقيقة المطلقة فيكون فهم صاحبك ضلالاً يخرجه من الملّة؟ .. وهل يملك صاحبك بدوره ادّعاء إدراك الحقيقة المطلقة، وبالتالي حيادي عن أحكام كتاب الله؟ .. لا شكّ أنّ استفحال هذا المنطق سيدخل الأمّة في أقوى صراعات لن تعرف لها حدًّا وسيؤدّي إلى الفرقة والتشتت، ولا أخال ذلك ـ بأيّ وجه من الوجوه ـ مراده سبحانه وتعالى من بعثة محمّد رحمة للعالمين .
إعلم بُني ... أنّ فهم كلّ واحد من المسلمين للقرآن خصوصًا والإسلام عمومًا ـ مهما بلغت درجة العلم والتفقّه والتفلسف لديه ـ ما هو إلاّ إنتاج بشري سمته المحدودية وطابعه النسبيّة , تحكمه حيثيات الزمان والمكان والتفاعلات البشريّة, مفتقر هكذا للإطلاقيّة.. وكذلك شاءت الإرادة الإلهيّة , ولذلك قال تعالى في محكم تنزيله «فلَا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هو اعْلَمُ بمن اتَقَى»(النجم 32) وقال «ألم َتَر إلى الذين يُزَكُّونَ أنفسهُمْ بل الله يُزَكِّي من يَشَاءُ ولا يُظْلَمُوَن فتِيلًا «(النساء 49) وقال أيضا «ولولَا فَضْلُ الله عليكُمْ ورحْمَتِهِ ما زَكَى مِنْكُمْ من أَحَدٍ أبداً ولكنّ الله يُزكِّي من يشاءُ والله سميعٌ عليمٌ»(النور 21 )... فلا تكوننّ ممن يعجبه لحن القول حتى تتبين الحقّ من الباطل فيه، فتصبحنّ كاليهود قالت ليست النصارى على شيء ولا كالنصارى قالت ليست اليهود على شيء ولا كالذين لا يعلمون قالوا مثل قولهم « فالله يَحْكُمُ بيْنَهُمْ يومَ القيَاَمةِ فيما كانوا فيه يخْتلفُوَن»(البقرة 113) فتجنب أن تكون ممن وصفهم الله بـ: «لا يعلمون » واتق الله ولا تظلمنّ أحدا، فتبوء بإثمك وإثمه وتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، واستغفر ربك آناء الليل وأطراف النهار على نهج المصطفى المختار .
ب ـ هل اعلم كُفر غيري؟ إعلم بُني ... أن الكفر(كما الإيمان) مُستقرّه القلب والفؤاد، وأنّه لا أنت ولا أنا نقدر على الحكم على ما يختلج في الصدور، فالله وحده «يَعلَمُ ما بين أيْديَهُم وما خَلْفَهُم»(البقرة 55) وربّك فقط « يَعْلَمُ ما تَكُنُّ صدُورهُم وماَ يُعلنُونَ «(القصص 69) وهو « يَعْلَمُ سرَكُم وجهْرَكُم ويَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ»(الأنعام 3) ويَميزُ المصدّق عن المكذّب، أليس هو القائل « وإنَّا لَنَعْلَم أنَّ مِنْكُم مُكَذِّبينَ «(الحاقة 39) . وإذا كان الرسول محمد (ص) لا يعلم ما تُقرّهُ القلوب وتضمره الأنفس من إيمان أو كفر فقد خاطبه ربّه بقوله « وَ مِمَنْ حَوْلَكَ من الأعْرابِ(ليس الأعراب هنا عرب بادية نجد والحجاز كما ذهبت الى ذلك معظم التفاسير ولكنّهم أولئك الذين تشوّهت عقائدهم بشرك واختلطت بكفر فزالت عن أنفسهم نقاوتها وطهارتها , أي لم تعد أنفس عُرُبٌ .. ففي لغة القرآن لفظ «عُرب « يُقابلها لفظ « أعراب « فتؤدي المعنى المقابل المناقض) مُناَفقُونَ ومن أهل المدينةِ مَرَدُوا على النِفَاِق لا تَعْلمُهُم نحن نَعْلمُهُم «(التوبة 101 )، فما بالك بي، وبنفسك وبخلق الله كافة ... أرى الآن صوراً تتعاقب بسرعة على مخيلتك: هذا « أُمَيْمٌ « يصيح من على منبر أفضل الخلق محمد بن عبد الله، بأعلى صوته « فلان كافر .. وعلاّن زنديق .. وفلانة ملحدة .. والأخرى مارقة ...» وذاك «عُييلم» يطلّ من شاشة التلفاز، يدخل البيوت دون استئذان , ينفث سموم التكفير في كلّ ركن من أركانها وفي كلّ نطفة من أنفس أصحابها، يزرع الفتنة والبغضاء بين الناس ويرويها بالسموم والدّماء .. ألا بئس ما يصنعون .. حسابهم عند الله عظيم .. فاحذرهم، واهجر منابرهم أولئك الذين « اتَخَذُوا مَسْجَدًا ضرَارًا وكُفْرًا وتَفْرِيقًا بين المؤمِنِينَ وإرصادًا لمن حَارَبَ اللهَ ورَسُولَهُ من قبل وليحلفُنَّ إن أرَدْنَا إلاّ الحسنى والله يَشْهَدُ انهم لكاذبُونَ(107) لا تقم فيه أبدا .»(التوبة 107، 108) .
و هكذا بُني ... فالكفر والإيمان من أمر الله وحده لا ينازعه فيه أحد من البشر وإلاّ كان شريكا له، وإن أنت اعتقدت في قدرة أي إنسان على ضرب صكوك الإيمان والكفر وتوزيعها بين الناس فقد أشركت مع الله آلهة أخرى ... فهل نحن منتهون.
إعلم بُني أن الله من قال «يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير»(الحجرات 13). فخذ منّي بعض معاني هذا القول وزنه بميزان سويّ, العقل إحدى كفتيه والفطرة الأخرى:
ـ «يا أيّها الناس « خطاب موجّه لكافّة البشر على اختلاف أعمارهم وألوانهم ولغاتهم وأوطانهم وطبائعهم وأعمالهم وأديانهم .
ـ «إناّ خلقناكم من ذكر وأنثى « تصريح بحقيقة انقسام خلق البشر بين الذكورية والأنثوية لا تفريق بينهما ولا تفضيل، أو تبجيل .
ـ «وجعلناكم شعوبا وقبائل « بيان أن معايير الاختلاف بين الناس ليس في الإيمان أو الكفر وإنّما فيما يجمع بينهم من روابط اجتماعيّة تقوم على القبيلة والشعب وفيما يفرّق بينهم عند اختلافهم في ذات الروابط الاجتماعيّة، ولذلك لم يقل الله(وجعلناكم مسلمين وملحدين) أو(وجعلناكم كفّارًا ومؤمنين) ... فالمقام متعلّق باجتماع الناس وتعمير الأرض والاستخلاف فيها .
ـ «لتعارفوا» ولم يقل(لتصارعوا) أو(لتقاتلوا) أو(ليكفّر بعضكم بعضًا)، فالهدف من خلق الناس ـ إضافة لعبادة الله وفي ذلك لا دخل لإنسي في آخر فالأمر كله لله يحاسب كلّ نفس وهي بما كسبت رهينة ـ هو التعارف بما تحمله الكلمة من معنى التفاعل والجدل في نطاق الأمن والسلام وربط العلاقات الطيّبة وليس إثارة نعرات التفرقة والتكفير وإشعال الحروب وسفك الدماء وربط الأحزمة الناسفة، وما الفرق في التكريم عند الله ـ وليس فيما بين البشر ذواتهم ـ إلاّ بالتقوى، تلك البذرة الكامنة في فؤاد كلّ نفس لا يعلمها إلاّ الخبير العليم .
ولا تنس بُني أبدًا صورة وجه الرسول(ص) كيف صار كظيمًا لمّا علم قتل أحد المسلمين محاربًا له في ساحة المعركة رغم قوله « لا إله إلاّ الله « وقال لصاحبه « أشققتَ على قلبه « لمّا دافع عن نفسه بأن المقتول إنّما قالها خوفًا من السلاح، وكيف طفق متعوذًا حتى تمنّى صاحبه أنّه أسلم يومئذ .
ولهذا كلّه فالمسلم الحق لا يجرأ أبدًا على تكفير غيره, فالاختصاص معقود مطلقًا لله وحده لا ينازعه فيه أحد من خلقه , فأزرع نبات الحبّ لإخوانك في قلبك، ولا تعاديهم, ودع عنك خرافات التاريخ التي صنعها أصنامه ونمّقوها، وادعوا نسبتها للرسول(ص) وهو براء منها، هم الذين قال عنهم الله « وإذا ذُكر الله وحده اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون»(الزمر 45)
ج ـ من يملك معاقبة الكافر؟ ويدخل في تحديد مفهوم الكافر هنا من يعتبره الله كذلك، فقد تقدّم القول بعدم صلاحيّة البشر لتكفير بعضهم بعضاً، ومن يعلن بنفسه صراحة خروجه من الإسلام وهو من يُسمّى أيضًا مرتدًا، فينحصر الإشكال في الجواب عن السؤال: هل على الكافر أو المرتدّ حكم في منهج الرسالة الخاتمة يوقعه عليه الحاكم في الدنيا؟ .. كلاّ يا بني، فإذا كان لا حكم إلاّ بعلم، وإذا كان العلم المطلق بالكفر والإيمان لله وحده، أمّا الإنسان فعلمه محدود وهو مفتقر للقدرة على علم سرائر الناس وما يعتمل في أذهانهم وصدورهم وعقائدهم، فإنّ الحكم على الكافر المرتدّ بيد الله وحده لا ينازعه أحد في ذلك أحاكمًا كان أو شيخًا أو إمامًا... حتّى الرسول(ص) لم يخوّله الله ذلك، ومرجعنا القرآن الكريم كتاب الله الذي أنزله تبيانًا لكلّ شيء وأعلن حفظه من التبديل أو التحريف: فقد سأل الله رسوله(ص ): «ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»(يونس 99) وهو القائل في كتابه العزيز « لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ»(البقرة 256) والقائل أيضًا موجّهًا خطابه لرسوله ولنا من بعده: «ومن يكفر فلا يَحزنك كفره، إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا، إنّ الله عليم بذات الصدور»(لقمان 23) دون أن يقول(إليكم مرجعهم فاستتيبوهم، فإن لم يتوبوا فاقتلوهم).. أبدًا لم يقل ذلك لأنّه عزّ وجلّ ما أعطى لأيّ إنسان حتى وإن كان الرسول الأكرم(ص) صلاحيّة مراقبة عقائد الناس وقياس درجة الإيمان والكفر لديهم، وإنّما جعل الأمر حكرًا له لأنّه « عليم بذات الصدور».
فلا تلتفت بُني لما يردّده الكثيرون عن جهل، هنا وهناك , منذ مئات السنين ـ مع كثير من الأسف ـ قولاً منهم بأنّ المرتدّ يُستتاب فإن تاب عُفي عنه وإن لم يتب قُتل، ولكنّهم لا يأتون لك ولو بآية واحدة من القرآن الكريم صريحة في ذلك سيما مع خطورة الحكم المتوقّع وهو القتل ... أليس القتل أشدّ عقاب يسلّطه إنسان على إنسان؟ فكيف ربّك لم يُنزّل آية تعادل درجة الصراحة فيها خطورة الحكم المسلّط على «المرتدّ»؟ .. أتركُ الجواب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... ولكنّي أذكّر ـ فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ـ أنّ الله هو القائل «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»(الكهف 29) جاعلاً للإنسان حرية الإيمان به أو الكفر، ولا نقبل مطلقًا من أيّ كان ومهما علا شأنه أن يقول على الله الذي جعل الحرية أصل الدين وكنهه، أنّه أمر بقتل المرتدّ إن لم يتب، أو نسبة ذلك زورًا إلى رسوله(ص) .
واعلم بني... أن حكم قتل المرتدّ ليس من الإسلام ولا من القرآن ولا من السنة في شيء، وإنّما هو حكم التوراة تسرّب لأذهان فقهاء السلف عبر وضع عديد الأحاديث والروايات ونسبتها بهتانًا للرسول(ص) , ولا تقل لي إنّها واردة في كتب البخاري ومسلم أو غيرهما، فلا قدسيّة لهما عندي وما هي إلاّ إنتاجات بشريّة تحتمل الصواب بقدر ما تحتمل الخطأ والمعيار في كلّ ذلك كتاب الله حكمًا بيننا . ولنعد للتوراة فنقرأ في سفر التثنية الآيات التالية: «وإذا أغواك سرًا أخوك ابن أمّك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصى الأرض إلى أقصاها فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره بل قتلاً تقتله حتى يموت لأنّه إلتمس أن يطوّحك عن الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبوديّة».
فتعلّم بُني ... ولا تقل إنّي عليم ... وتعقّل كلّ أمر ولا تزنه بالأهواء... واعمل خيرًا حتى تلقى نفسك ربّها راضية مرضيّة . وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وإلى حلقة قادم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق