الجمعة، 26 يوليو 2013

خيمة البرقية الرمضانية "اليوم18




مصطفـى العمراني_"مدير مكتب البرقية التونسية" و الموعد الجديد العالمية _المغرب

في ليلتنا هذه اخترت لكم...
بين تونس الأمس وتونس اليوم: حكايات من زمن بورقيبة: مسدّس أبي
لمنصف الوهايبي

أعادتني الأحداث الأخيرة التي لا تزال تونس تعيش على وقعها، إلى حكايات كان أبي رحمه الله يقصّها علينا. وقد ضمّنت بعضها كتابي السردي’ هل كان بورقيبة يخشى حقّا معيوفة بنت الضاوي’. 
فهؤلاء الشباب من ‘أنصار الشريعة’ كما يطيب لهم أن يُسمّوا أنفسهم، في مذهبهم ‘شيء ما’ يكاد يجنح بهم إلى الفوضويّة وهي القول بعدم ضرورة الدولة. ولو لم يكن الأمر كذلك، فما الذي كان يحول إذًا بينهم وبين طلب ترخيص سواء لاجتماعهم أو لحزبهم؟ الأمر هنا أشبه بما كان يأخذ به بعض المسلمين القدامى مثل الخوارج، من القائلين بعدم ضرورة نصب إمام للمسلمين أي بعدم ضرورة الدولة. ويُنسب إلى المعتزلة أنّهم أجازوا ذلك، لكن في حالة واحدة مستحيلة وهي ‘أن يكون جميع المسلمين عدولا ليس بينهم فاسق’. أقول هذا دون أن أغفل أنّ الخوارج كانوا أقرب الفرق إلى فكرة الديمقراطيّة، فهم الذين رفضوا أن تكون الإمامة وقفا على قريش؛ بل أجازوا أن يكون الإمام عبدا أو حرّا أو نبطيّا أو قرشيّا. ولكن ما يجمع هؤلاء الشباب من ‘أنصار الشريعة’، إلى الخوارج ـ وأقصد القدامى ـ إنّما هوالتعصّب الديني العجيب وضيق الذهن الأعجب، وهم الذين يرون أنّ الإسلام وقف عليهم دون غيرهم من التونسيّين، فضلا عن أنّ أكثرهم ـ على ما يبدو ـ ينتمون إلى ‘نخبة الحثالة’ من الذين انقطعوا عن الدراسة، أو هم من النازحين الذين تقطّعت بهم سبل العيش الكريم، وأهملهم العهدان: البورقيبي والبنعلي. ولعلّ هذا ما جعلني أتذكّر حكاية من حكايات أبي عن السلاح وعن النازحين إلى تونس العاصمة. وحيّ التضامن الذي شهد يوم الأحد 18 ايار/مايو2013 أحداثا دامية بين رجال الأمن وشباب من ‘أنصار الشريعة’، صورة من حي برج علي الرايس في العهد البورقيبي الأوّل: الفقر والتعصّب
***
يقول أبي متفلسفا إنّ المشهد في برج ‘علي الرايس′ في العهد البورقيبي الأوّل، عندما أمرت السلطات النازحين ،بمغادرة بناءاتهم الفوضويّة طوعا؛ كان قبل استخدام الرصاص الحيّ ـ ولا أفهم لماذا يُنعتُ بـ’الحيّ’ ـ يوحي بأنّ الأمور تسير نحو التهدئة، وأنّ بورقيبة لا يمكن أن يكون قد أصدر أمرا بإطلاق النار على سكّان البرج، إلاّ في حال امتناعهم عن الخروج. 
قد يستفزّك هذا ‘الحيّ’ الذي يصنع الموت، ولكن ألا تولد مع كل حياة بذرة للموت؟ ألا تولد مع كل كائن حي بذرة فنائه؟ ألا تولد مع كل نهار جديد بذرة غروبه وزواله؟ وهل الحياة سوى بعض من الموت وهل الموت سوى بعض من الحياة؟ وبعد هذا وذاك فهل كنت يا مختار تريد أن يستعملوا الرصاص الأبيض لتفريق المتظاهرين من النازحين إلى العاصمة؟ 
لقد ترجّيت ُعلي الساسي ـ قبل أيّام من اندلاع انتفاضة النازحين في برج علي الرايس، أن ينسى العاصمة ويعود إلى ‘عين مجونه’(وهي الريف الذي ولدت به، ويصرّ أخي المعزّ على أنّ اسمها مشتقّ من اسم ‘ماغون’ أو ‘ماجون’ العالم القرطاجني الشهير، والذي يحمل اسمه أحد أشهر أنواع النبيذ التونسي’ وحجته لذلك لا الاسم فحسب، وإنّما الآثار الرومانيّة وحتى الفينيقيّة التي تكتظ بها عين مجونة).
قال علي الساسي وهو من أصدقاء والدي: ‘انس يا مختار الدشرة.. أتذكر ليلة َسهرت في حاجب العيون، وشربت ثلاث أو أربع زجاجات كوديا في حانوت ‘ذيب الهرية’. انتظرتُ أن يأتي ابنه ليحملني معه في عربته. وإذ طال انتظاري ولم يأتِ ،قرّرتُ أن أقطع المسافة إلى الدشرة راجلا. لكن ما أن قطعت أكثر من نصف المسافة، حتّى رغبت في إشعال سيجارة أرتي. أطبقت على السيجارة بين شفتيّ، وأشعلتُ عود الكبريت في تجويفة راحتيّ؛ ولكنّ الرّيح نفختْ فانطفأ. أعدتُ المحاولة مرّتين أو ثلاثا، وفي كلّ مرّة ينطفئ العود. بقي عود واحد لسيجارة واحدة. أدرتُ يا مختار ظهري للريح ،وقدحتُ العود ثمّ جذبتُ أنفاسا متوالية فإذا السيجارة تتوهّج. وقفتُ أعبّ أنفاسا أخرى. ثمّ واصلت سيري، ناسيا في غمرة نشوتي أن أعود فأستدير نحو الدشرة.. تلك هي حالي يا مختار.’
يا مختار الرصاص الأبيض للسينما وهذه ليست سينما. السينما للفرجة وهذه الأحداث لم تكن للفرجة والكتابة فاحذر فقد تصيبك رصاصة طائشة أو موجّهة، مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ، بيضاء أو حيّة كما أصابتني في ذلك اليوم الخريفي من عام 1951 .
يقول أبي إنّ الرصاصةـ لحسن حظه ـ قد مرقت من زنده دون أن تصيب العظم، ولكنّ أثرها ظلّ في لحمه وفي روحه إلى يوم مماته وبعد مماته. ورغم أنّه بحث واستقصى كثيراعلّه يعرف صاحب الطلقة فقد باء بالخيبة. ونصحه أهله في برج علي الرايس أن ينسى الأمر مادام قد باء بالسّلامة. وقال له صديقه علي الساسي ‘يا مختار انس هذا الأمر وعد إلى الدشرة. هذا ليس بارود فرسان وأعراس. هذا بارود الموت الأعمى’. وقال له شيخ أولاد ‘س′ وقد عاده رفقة الطبيب أحمد الدهيسي ‘إنّهم يؤلبون الناس على بعضهم ليخلو لهم الجوّ ويفوزوا بالسلامة. هذه لعبة يتقنها بورقيبة. إنّي أرى يده في هذا’. ورغم أنّ أبي أنكر على الرجل قوله فقد خالجه بعض من شكّ، ولكنّه كره أن يفصح.
يقول أبي ‘دسّ الرجل، قبل أن ينصرف، تحت وسادتي لفافة وهو يقول: ‘هذا عربون صداقتي’ حتى إذا ما فضضتها ألفيت فيها مسدسا ألمانيا وخزائن ذخيرة’.
***
أين ذلك المسدّس الآن’ تناقله إخوتي من بيت إلى بيت حتى نسينا في أيّ بيت يقبع. وأنكر كلّ منهم أن يكون في حوزته أو رآه أو سمع عنه وقالوا لي ‘يا منصف عن أي مسدّس تتحدّث ؟ما هذا اللعب الماسط؟’
والماسط عند العرب هو الماء الملح (ولا يُقال المالح في العربيّة) يُخرج ما في البطون وهو أيضا نبات صيفي إذا رعته الإبل خرط بطونها، فهل تريد أن يخرطوا بطوننا وعقولنا وقلوبنا؟ ثم ماذا سيجدون غير أحلام أو بقايا أحلام هي كل ما تبقّى من شباب مسروق أو مغتصب؟ هل سيحاكموننا على أحلامنا’ الحمد لله أنّهم لا يقرؤون الأحلام (وإن كثر قرّاء الأحلام في بلادنا من علماء فلكيين وروحانيين، إناث وذكور، خرّيجي أكاديميات وجامعات حتى استنجدت بهم أشهر الجرائد الصريحة والتلفازات المليحة وما يدريك لعل الله أيضا يستنجد بهم يوم الحشر ليقرؤوا له ما تخفي النفوس وما تضمر؟) مساكين، لو خرجت أحلام الناس إلى العلن!
ألا ترى كم ضاقت مساحة الواقع وكم اتسعت مساحة الحلم؟ يا منصف عد إلى حكاية أبينا ولا تشرد ودعك من الأشياء الحزينة التي تكدّر وحدثنا عن الأشياء الجميلة التي تشرح النفوس. ألا تبتسم؟ إنّك في تونس.’
***
ها أنا أنزل عند رغبتكم وأواصل الحكاية. يقول أبي ‘صحبت علي الساسي إلى اجتماعات كثيرة كان يخطب فيها الزعيم صالح بن يوسف. وكان صاحبي يقول لي يا مختار اسمع ولا تتكلم’. وها هم يتكلّمون ونحن نسمع وها هم يتكلّمون ونحن نسمع وها هم يتكلّمون ونحن نسمع. أما آن لنا أن نتكلّم’ أما آن لهم آن يسمعوا؟ ‘حتى قلت له يوما: يا علي ألا يسكت هذا الرجل’ ألا يبلع ريقه’ فنظر إليّ وقال: أسكته إن شئت! ‘وضغط بسبّابته كأنّه يطلق نارا. 
لكأنّ نبوءته صدقت فالرجل لم تسكته إلاّ طلقة نار،في فندق بألمانيا. كان هناك في تونس رجال كثيرون يتكلّمون، وكان علي الساسي إذا رأى منّي ضيقا أو تبرّما ثنى سبّابته، وهو يقول ‘أسكته يا مختار!’ ويفرقع بلسانه في تجويفة فمه فيفزع بعض الحاضرين للطلقة البيضاء، فيهمس في أذني ‘لم يسمعوا الرّصاص الحيّ بعد’ .
أخفى أبي مسدّسه في صندوق لأمّي هو كلّ ما ملكت من متاع الدنيا. أين هو ذلك الصندوق اليوم؟ ذهب مع الأيام كما ذهبت صناديق أخرى كثيرة غيره أو ذهب ما فيها. أذكر أنّ مفتاحه الوحيد قد ضاع من أمّي وعزّ عليها أن تخلعه وكانت تقول: ‘وبعد ليس فيه شيء ذو بال. إنّه يزين الغرفة وهذا يكفي’. حتى عنّ لي ذات يوم وأنا فتى يافع أن أقلّبه فإذا هو بلا قاع ولا شيء فيه شأنه شأن صناديق كثيرة غيره لا قاع لها. على أنّ الصناديق وإن تشابهت أنواع، فهناك الصندوق الذي لا يبوح بما فيه، وهناك الصندوق الذي يبلع ولا يدفع، يشفط شفطا ولا يمتلئ أبدا، وهناك الصندوق الأسود الذي لشدّة سواده، لا ترى ما فيه، وهناك صندوق الطّرد في المراحيض يدفع ولا يبلع، وهناك صندوق البريد يوزّع الأكاذيب والأحلام بين الناس، وهناك صندوق النقد الدولي وفي شأنه تقول العرب نقدت الحيّة الرجل أي لدغته. واللدغ أنواع فهناك اللدغة القاتلة التي لا تبقي ولا تذر، وهناك اللدغة التي تخدر وتنوّم، وهناك لدغة النحلة ولدغة العقرب ولدغة الحية ولدغة بني آدم وهي أشدّ فتكا وأثبت مقتلا.
ها أنا أفعل مرّة أخرى ما يفعله الصحبي أخي في استطراداته. قلت له مرّة: ‘أنت مهندس معماري، ولو كنت تصمّم الدور والقصور… كما تكتب، لكنتَ ترسم أو تصمّم متاهة من متاهات برخس، أو كتاب رمله.’
***
يقول أبي ‘في شتاء 1951 لحق بي علي الساسي إلى الدشرة وقال لي ونحن نغادر الدكّان الوحيد بعد سهرة طالت حتى الهزيع الأخير من الليل: ‘يا مختار، أريد المسدّس لأسبوع ليس أكثر’. فلمّا قلت له’ وما حاجتك إليه وما تفعل به” ابتسم وقال: ‘أصطاد به الحجل والأرانب’. ولم أعجب لجواب الرّجل فقد رأيت فيما بعد جيوشا جرّارة تصطاد الحمام والعصافير مستعملة الطائرات والغوّاصات والمدافع والصواريخ قصيرة المدى،متوسّطة المدى وبعيدة المدى. 
تقول الرواية إنّ بريجنيف خرج مرة للصّيد فما زال يطلق الرصاصة تلو الرصاصة دون أن يصيب صيدا ،فالتفت إليه أحد الرفاق وهو يقول: ‘عجبا! هذه المرّة الأولى التي أرى فيها طائرا أصاب منه الطلق مقتلا ولا يسقط’. لعلّ الرفيق بريجنيف كان يستعمل الرصاص الأبيض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق