الاثنين، 18 مايو 2015

ماذا تريد النخبة العربية ؟

ماذا تريد النخبة العربية ؟
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
ما أعنيه هنا بالنخبة هم الصفوة من المثقفين في علوم السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع ، المهمومين بمشاكل الأوطان ، المتابعين لقضايا الشأن العام الذين يمثلون ضمير الأمة من العلماء ، والخبراء ، والأكاديميين ، والقانونيين ، والإعلاميين ، والأدباء ، والمفكرين .. فالنخبة بشكل عام هي شريحة طويلة عريضة ، مترامية الأطراف ، مختلفة المشارب ، متعددة الأدوات .. وإن كانت ترمي جميعها إلى تحقيق غاية واحدة ألا وهي نشر الوعي والتنوير فيما يخدم قضايا الوطن والمواطنين .. وهي تمثل الدائرة الأوسع في عملية صنع القرار بحكم ما تقدمه من رأي وفكر للنظام .. لكن يؤخذ على النخبة أنها لا تعبر تعبيرا حقيقيا عن الرأي العام .. ربما لأنها تشبه إلى حد ما الطيور التي تقضي جل أوقاتها محلقة في الفضاء ثم تأوي إلى أعشاشها الأنيقة فوق الأشجار وعلى قمم الجبال .. كذلك تفعل غالبية النخبة في عالمنا العربي فهي تتواصل مع الناس من مكاتبها المكيفة في أبراجها العاجية ، ثم تستقل سياراتها الفارهة وهي عائدة إلى قصورها ، وفنادقها ، ومنتجعاتها .. ونادرا ما تنزل إلى الأرض لتتعرف على أحوال الشعب ، وتتعايش مع معاناته اليومية ، وتطلع على مشاكله اللامنتهية .. لهذا السبب كانت النخبة ومازالت ضعيفة في جميع البلدان العربية .. لذا فشلت فشلا ذريعا في أن تمثل بديلا أو تصنع زعيما وبالتالي لم تعبر عن إرادة الجماهير ، فأحدثت فراغا كبيرا دفع الشعوب دفعا للانسياق وراء أعداء الوطن وتجار الدين !! .
الحقيقة التي لاشك فيها أن النضال الشعبي والكفاح الوطني الذي يتبناه البعض من النخبة والنشطاء السياسيين في بعض الدول العربية ليس هذا وقته أبدا .. نعم النضال الشعبي كان عملا وطنيا حينما كانت الدول العربية ترزح تحت نير الاستعمار .. حيث كانت النخبة في أرجاء الوطن العربي كله تتقدم صفوف الجماهير الثائرة وهي تطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام ، وتقود العمليات الفدائية ، وتعرض وحشية جرائم الاستعمار في المنتديات الدولية وهي تطالب بحقوق بلادها في الاستقلال والحرية .
أما في عصرنا الحالي ونحن نعيش في ظل أنظمة وطنية جاءت إلى الحكم برضا شعبي عام .. فما كان صالحا من شعارات وطنية أيام الاستعمار لا يصلح بالضرورة الآن .. أما محاربة الفساد والإصلاح والتغيير الذي ينشده الجميع فلن يتحقق إلا بالمشاركة الايجابية ، وتلاحم القوى الوطنية ، ومن خلال أداء النخبة لدورها السياسي في إبداء الرأي ، وتوجيه النقد ، وتقديم ما لديها من أفكار وتوصيات واقتراحات .. انطلاقا من تقديراتها للمشهد السياسي التي مهما بلغت دقتها إلا أنها تبقي في النهاية تقديرات قاصرة نظرا للاختلاف الجوهري في الرؤية السياسية الخاصة بكل ضلع من أضلاع مثلث الشعب ( السلطة والنخبة والعامة ) .. فالسلطة كونها صاحبة القرار فهي ترى الصورة كاملة من كافة الزوايا والجوانب والأبعاد .. لكن النخبة بحكم متابعاتها فترى نسبة كبيرة من الصورة وما خفي منها كان أعظم .. أما العوام من الناس فلا يرون من الصورة إلا مشاكلهم الحياتية ، ومعاناتهم اليومية ، وحقوقهم القانونية ، وقضاياهم المصيرية .. لذلك يختلف الحكم على مجمل القضايا الوطنية اختلافا كبيرا بين السلطة ، والنخبة ، والعامة .
الغريب العجيب أن بعض النخب العربية تعارض الحكومات ، وتصعد الخلافات ، وتعمق الأزمات ، وترفض الحلول الوسطية خاصة في الدول المحافظة ذات الأنظمة التقليدية ونسيت أو تناست أن أنظمة هذه الدول بنيت في المقام الأول على رضا شعبي عام مكونا عقدا اجتماعيا صحيحا وبناء عليه اكتسبت شرعيتها في الحكم .. وهذا هو الفارق الجوهري بين العقد الاجتماعي في هذه الدول ، وغيرها من الدول العربية الأخرى ذات الأنظمة الجمهورية التي وصلت إلى الحكم بالقوة في ظروف استثنائية بالغة الحساسية عقب حركات أو انقلابات عسكرية .. تحول بعضها فيما بعد إلى ثورات شعبية بإنجازاتها الكبرى ، وانحيازها للغالبية العظمى كما حدث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي .. لذلك أود أن أهمس في أذن كل من ينتمي إلي النخبة في الدول العربية ذات الأنظمة التقليدية المتوارثة قائلا له احمد ربك على نعمة الأمن والأمان والاستقرار ، واشكر فضله ، وتفانى في عملك ، ولا يفوتك أن تصلي كثيرا ، وتدعو طويلا .. ثم بعدما تؤدي عملك ، وتكمل صلاتك ، وتفرغ من دعاءك .. أنظر حولك فستجد الأرض كلها مشتعلة عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن أمامك ، ومن خلفك .. وما أخالك إلا عائدا مسرعا لتعمل وتصلي وتدعو مجددا خاشعا حامدا شاكرا لله عز وجل لأن الأرض لم تشتعل تحت قدميك .. والتي إن اشتعلت لا قدر الله فستلتهم من أشعلها أولا ، وستأتي على الأخضر واليابس ، ولن ينج منها أحدا .
الملاحظ أن النخبة في بعض الدول العربية ذات الأنظمة التقليدية المتوارثة أصيبت بحمى الثورات العربية التي اجتاحت الوطن العربي في السنوات الأربعة الماضية فتصورت أن بإمكانها خلق زعامة شعبية .. وغاب عن هذه النخبة أن الزعامة الشعبية التي تلتف حولها الشعوب .. عادة تخرج من بين صفوف الجماهير مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سلفا الذي بدأ حياته العملية من ماسح أحذية إلي رئيس للجمهورية لذلك بدأ حكمه بتطبيق الضريبة التصاعدية كنقطة انطلاق نحو هدفه الأسمى ألا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية فأنصف الفقراء ، ونهض بالاقتصاد ، ولم يغضب منه الأغنياء لأنهم وطنيون فعلا وليس مجرد إدعاء .. لكن يجب علينا أن نعترف بأن الثقافة العربية للأسف الشديد تقف عائقا أمام ولادة مثل هذه القيادات الشعبية المنشودة .
الحكم السليم على الأشياء لا يكون عاما أو مطلقا بل لابد أن يكون منصبا على السواد الأعظم .. وانطلاقا من هذه الحقيقة فإن الشعوب في بعض البلدان العربية ذات الأنظمة التقليدية المتوارثة التي حباها الله بثروات طبيعية ، ووفرة اقتصادية .. تتمتع بجميع حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وتنعم بأعلى درجات المعاملة الإنسانية .. فالمواطن في تلك الدول أي كان مستواه الطبقي ، أو القبلي ، أو التعليمي ، وأي كان انتماؤه الطائفي ، أو رأيه السياسي .. عندما يدخل إلى أي مخفر شرطة لأي سبب يعاجله الشرطي بقوله ( آمر طال عمرك ) إذا لماذا لا تستحضر النخبة في تلك الدول المستقرة جرائم الأنظمة المستبدة البائدة في بعض الدول العربية الأخرى التي نهبت ثروات البلاد ، وصادرت الحقوق والحريات ، وكممت الأفواه ، وملأت السجون والمعتقلات ، وما قامت به من ملاحقات أمنية ، واعتقالات سياسية ، وما ارتكبته في حق شعوبها _ خصوصا من كان يخالفها الرأي _ من جرائم ضد الإنسانية بدأ بالتهديد والمساومة ، مرورا بالإقصاء والتخوين ، وصولا إلي الموت تحت سياط التعذيب ، مصحوبا بقاموس من البذاءات والشتائم أقلها إساءة من عينة ( اخرس يا ابن .... ) وأكثرها أدبا من عينة ( نعم يا روح .... ) على يد الشرطة التي تعتبر أداة القانون ، وعنوان السلطة ، ومفتاح النظام ، ولسان الحاكم .. أما أسلوبها في التعامل مع الشعب .. فيعتبر ترجمة عملية لمرجعية النظام من درس في كتاب التاريخ إلى أمر واقع على الأرض .
ماذا تريد النخبة العربية ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق