أ
وضاع آخاذة
وكالة أنباء البرقية التونسية الدولية وجريدة الموعد الجديد العالمية
وضاع آخاذة
بقلم فرحات جنيدى
بدأ الليل يترنح ونسمات الصباح تنصب عليه فينهار في بطء وهو ما زال مستلقيًا على الأرض فى ساحة مقام جده يرتشف آخر قطرات الخمر وسط ضحكات أصدقائه الغارقين معه فى وهم الخيال الذى رسمه الخمر فى عقولهم فأغرقهم جميعًا . يتسلل الواحد منهم تلو الآخر حتى خلت ساحة المقام عليه ولم يتبق معه غير بقايا خيوط الليل التى تنصهر من بزوغ نور الصباح يحاول أن ينفض عن نفسه تراب الوهم لكنه يفشل , يعلو صوت التكبير لصلاة العيد فيشعر بالحزن والندم وتنهمر الدموع من عينيه فيقبض بيده على القليل من تراب الساحة ويحاول أن يتيمم به لكنه يفشل , يرفع عيناه نحو السماء فيجدها أمامه تمد يدها وتمسح دموعه وتنفض التراب عن ثوبه وتمسك بيده وتساعده على النهوض وهى تهمس فى أذنه الخمر لا يقدم شئ غير الوهم يا ابن أمى والإنسان يلجأ للخمر ليهرب من الواقع ويكذب على نفسه فيهدم الإنسان الذى داخله فيصبح شخصًا آخر وها أنت الآن كذلك فهيا امض معى حتى تنجو أنت من الوهم وأنجو أنا من الواقع .
يخطو معها وهو يعلم أنه ذاهب إلى طريق مظلم ومع كل خطوة يحاول أن يوقظ عقله لكنها تقرأ عينيه فتهمس له فى أذنه دعك من تلك الأفكار السوداء ولا تسمح لأحد أن يعبث بعقلك وافرد ذراعيك وضمني فمنذ رحيل أبى وأنا أفتقد الحنان . تراجع خطوات ونظر إليها فى خوف وقلق شديد وقال بحزن : ولكن يا بنت أبى وأمى اختار القدر أن يكون بيننا خط فاصل من الصعب أن أمحوه فلا يمحو الدم غير الدم . جذبته من ذراعه فتحرك خطوة فارتمت فى حضنه وانهمرت فى البكاء وقالت : اليوم عيد فهيا كبر معى فأنا مللت الحزن . رق قلبه فدمعت عيناه وقبلها بين عينيها وقال : القدر بيننا يا أختى كالسيف إن واجهناه قطعنا فدعينا نحتكم للأيام ربما يكون القادم أفضل . ابتسمت بشئ من الخبث وقالت : سيكون القادم أفضل فاللحظات العصيبة لم تأت لتبقى بل جاءت لتعبر .
من بين إخوتها السبع اختارته ليكون كبش الفداء لدم زوجها الذى قتله أخوها الأكبر فهو المحبوب بين أهل القرية وأكثرهم مكانة خارجها بما يتمتع به من قدرة على العمل والحركة وتقديم التهنئة والتعازي في كل مكان , وكان من رواد المساجد وحلقات الذكر وكان أهل القرية يرون فيه جده الشيخ الكبير الذى يزين مقامه مدخل القرية ويقام له مولد في النصف من شعبان كل عام وبجانب أخلاقه تلك كان أقوى إخوته وأكثرهم حزمًا في المواقف الصعبة لكنه كان أضعفهم قلبًا فهو الذى لم يقاطعها بعدما اختارت أولادها وأهل زوجها عن أهلها وإخوتها , وكان دائمًا ما ينظر إليها نظرة عطف وحنان بل أحيانًا يشعر بأنها العوض عن أمه وكلما حذره إخوته أو أقاربه كان يقول أعلم وأحاول أن أكون دائمًا حذرًا لكن القلب الذي فطر على الحب لا يكره أبدًا وها أنا أبسط قلبي وامشى فى نوره . كانت دائمًا تتربص من أجل أن تلقاه وتحاول استمالته وكان قلبه المحب يستسلم لكلماتها ودموعها الحزينة لكن بمجرد أن تقترب منه يضئ قلبه طريقه ويكشف ظلام قلبها فيراها أمامه كشيخ أعور كسيح وعيناه مشقوقتان بالطول ورأسه كرأس الفيل الكبير وأنيابه خارجة كأنياب الخنزير وشفتاه كشفتي الثور . كان يرى الشيطان الذى تخفيه خلف ابتساماتها الخبيثة ودموعها القذرة .
أدخلته البيت ونادت على أولادها وشقت الثوب الأسود من فوق جسدها وقالت : تعالوا يا أولاد فمن اليوم لا حزن كبروا فاليوم العيد يعود لنا بعد غياب . التفوا حوله وكل منهم يمسك سكينًا فى يده , انتفض من مكانه فهرب وهم الخمر من رأسه وانتبه للواقعة وايقن خاتمته وقال بحزن شديد : أى عقل وقلب ودين يقبل أن تأتِ بابن أبيك وأمك ليثأر منه الغرباء . هل الكراهية تعمي عن الحقيقة وتلغى العقل هكذا ؟
ضحكت بصوت مرتفع وقالت : الكراهية كالخمر تجعلك تعيش فى عالم بعيد عن الواقع وهكذا استطعت أن اآتِ بك إلى هنا بعد أن أخرجتك إلى الواقع وجعلت الخمر يأخذك إلى عالم غير العالم وهكذا أيضًا فعلت بى الكراهية أخذتنى إلى عالم أعيش فيه على أمل أن يأتى اليوم الذى يرفع فيه أولادى رأسهم بعد أن نكسها أخاك بقتل أبيهم . قال وهو يعصره ألم الحزن : لقد اسود قلبك بالكراهية حتى وصل بك الأمر إلى أن تقدمى أخاك كبش فداء لذنب لم يفعله .
عاودت الضحك حتى غرغرت عيناها بالدموع ونزعت معصم رأسها وأمسكت بشعرها وقالت : منذ أعوام بعيدة عندما كنت بنت العاشرة عندما كان كل ما يسعدنى فى الدنيا هو أن أرى خصلات شعرى تلك التى كساها الشيب تكبر أمام عينى ولم أكن أهتم بليالٍ مضت علينا ونحن نصارع البرد أو الجوع لم تدمع عيناى عندما كان ينادى لصلاة العيد مثل الآن والأطفال تمرح فى الطرقات وأنا أمسك بخصلات شعرى وأغزلها حتى أنسى ثوبى الممزق كنت صبورة كما ترى لكن جدك امتلكت قلبه الكراهية والحقد على كل الناس ولم يجد طريق يخلصه من الفقر والكراهية غير أن أطلق لحيته وعاش بين الناس درويش يستغل همومهم وجهلهم من أجل أن يكسب المال ليأكل أفخر الطعام ويرتدى أفضل الثياب ويمضى بين الناس فارد قامته يكرم أينما وجد ولم يتوقف فساقته رغبته أن يكون عزيزًا بين الناس أن يسرق أموال النذور من بيوت الأولياء حتى مات فأكمل أبوك الطريق من بعده وادعى أن جدك ولى من أولياء الله الصالحين حتى يستمر باقى عمره كعزيز بين الناس .
أنا تعلمت منه فإن اخترت أهلى بعد مقتل زوجى سأكون خاسرة منكسرة فمهما مضت الأيام سيثأر أولادى لأبيهم ويصبح كل منهم أخذ حقه وأعيش أنا بقية عمرى خاسرة زوجى بالماضى وأولادى بالحاضر ويرافقنى ثوب أسود وحزن دائم حتى أدخل قبرى لكن ما تعلمته من أبيك وجدك هو الذى جعلنى أختار أولادى وأن أسعى معهم لأخذ الثأر حتى لا نعيش فى العار والحزن للأبد وأن أضحى بأخ أفضل من أن أضحى بأولادى فلذات كبدي ودم زوجى الذى احتوانى . إذا فلا سبيل أمامنا غير موتك فموتك نحيا بعدما عشنا سنوات موتى بلا قبور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق